في رواية الخيال العلمي التي ألّفها الكاتب الأمريكي نيل ستيفنسون عام
1995، والتي تحمل عنوان "العصر الماسي The Diamond Age"، يتعرّف القرّاء على نيلّي، وهي فتاة صغيرة عثرت على كتاب
متقدّم للغاية اسمه (الكتاب التمهيدي المُصوَّر للسيدة الشابة). هذا الكتاب ليس
المجموعة الثابتة المعتادة من النصوص والصور، بل هو أداة متطوّرة للغاية، يمكنها
التحدث إلى القارئ، والإجابة على أسئلته، وتخصيص محتواه بما يتلاءم مع اهتمامات
القارئ، وكل ذلك في خدمة تثقيف وتعليم وتحفيز الفتاة الصغيرة لتكون فرداً قوياً
ومستقلاً.
مثل هذا الكتاب -أو الجهاز- ظل في عالم الخيال العلمي حتى وقت قريب.
حقّق الذكاء الاصطناعي قفزة عملاقة إلى الأمام مع ظهور ChatGPT
في شهر تشرين الثاني من عام 2022، وهي تقنية ذكاء اصطناعي
قادرة على إنتاج أجوبة خلّاقة وإبداعية بشكل ملحوظ وتحليلات متطورة من خلال حوار
شبيه بالإنسان. لقد أثار ChatGPT موجة من الابتكارات التي يشير بعضها إلى أننا قد نكون على حافة عصر من
الأدوات التفاعلية فائقة الذكاء، والتي لا تختلف عن الكتاب الذي حلم به ستيفنسون
في روايته.
يتمتع الذكاء الاصطناعي بالقدرة على إحداث ثورة في التعليم، وتحويله من
نظام يُركّز على حفظ الحقائق والمعلومات إلى نظام يساعد الطلاب على إطلاق العنان
لإمكاناتهم الكامنة وتعلّم المهارات اللازمة من خلال تعليم أكثر تخصيصًا. ومع تطور
تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، أصبح من السهل على المعلمين بشكل متزايد نشر أدوات
الذكاء الاصطناعي في فصولهم الدراسية وتوفير تجارب تعليمية مخصصة.
في إحصائية نشرتها مؤسسة Council for Opportunity in
Education عام 2020، ذُكر بأن في هذا العام قد تم استثمار
ما يقارب 2 مليار دولار أمريكي في مجال الذكاء الاصطناعي في التعليم. ورغم أن هذا
المبلغ قد يبدو قليلاً نسبياً مقارنة بحجم الاستثمار الكلي في مجال الذكاء
الاصطناعي والذي يقارب 100 مليار دولار أمريكي، إلا أنه مؤشر مهم على توغّل الذكاء
الاصطناعي في مجال التعليم رغم الكثير من المعوّقات الفنية.
منذ نشوء أولى الحضارات وكتابة التاريخ الإنساني، كانت العملية
التعليمية هي عملية تبادل معلومات بين طرفين، المعلّم وطالب العلم. وكان هناك
دائماً إنسان يقوم بوظيفة المعلّم، ودائماً هناك إنسان آخر يطلب العلم منه. ورغم
تطوّر المنهجية الأكاديمية وطرائق الحصول على المعلومات، وتنوّع مصادر المعلومات،
كأن تكون عبارة عن كتب أو مقالات أو ملازم دراسية أو حتى فيديوهات على YouTube، إلا أن هناك دائماً إنسان
وراء هذه المعلومات والمواد الدراسية.
إن دخول الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم لازال بطيئاً، ويقتصر -لغاية
الآن- على بعض الأدوات التي تساعد المعلّمين على طرح المعلومات بطريقة أكثر
تفاعلية، وتساعد الطلبة على التفاعل مع المعلومات بشكل أكبر وأكثر تخصيصاً. لم نصل
بعد إلى أن تكون الآلة هي المعلّم وهي من ينشئ المحتوى التعليمي من ذاتها!
نحن ما زلنا نتعلم كيف ستندمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم
أثناء تطورها، وليس لدينا بعد صورة كاملة عن كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على
القضايا الحاسمة المتعلقة بالأخلاق والمساواة وسلامة البيانات. ومع ذلك، فقد حددنا
بالفعل العديد من الاستخدامات الرئيسية للذكاء الاصطناعي في التعليم، بما في ذلك
الألعاب التعليمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي كلعبة The
Oregon Trail التي تم إصدارها لأول مرة في عام 1974،
ومنصات التعلّم المتكيّفة مثل منصة Knewton، وتطبيقات التقييم (وضع
الدرجات) الأوتوماتيكية، وأنظمة التدريس الذكية مثل تطبيقات
Duolingo ونظام
Khanmigo التعليمي التابع لمنصة Khan
Academy.
في شهر أيار من عام 2023، أصدرت وزارة التعليم الأمريكية تقريرًا
بعنوان "الذكاء الاصطناعي ومستقبل التدريس والتعلم: رؤى وتوصيات". وعقدت
الإدارة جلسات استماع في عام 2022 مع أكثر من 700 شخص، بما في ذلك المعلمون
وأولياء الأمور، لقياس آرائهم حول الذكاء الاصطناعي. وأشار التقرير إلى أن
"المشاركين يعتقدون أن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراء الآن من أجل استباق الزيادة
المتوقعة في الذكاء الاصطناعي في تكنولوجيا التعليم - وهم يريدون أن يشمّروا عن
سواعدهم ويبدؤوا العمل معًا". أعرب الناس عن قلقهم بشأن "المخاطر
المحتملة المستقبلية" المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، لكنهم شعروا أيضًا أن
"الذكاء الاصطناعي قد يمكّن من تحقيق الأولويات التعليمية بطرق أفضل، وعلى
نطاق واسع، وبتكاليف أقل".
إن اعتماد التعليم على الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر يتطلّب موارد هائلة،
فالمعوّقات في هذا المجال لازالت كبيرة ومهمة، وذلك لأن العملية التعليمية بالذات
تعتمد على التفاعل بين البشر وإقامة جسور التواصل أولاً لكي يسهل تلقّي المعلومة.
نحن نعرف جيداً بأن المعلّم الجيّد الذي يتلقّى قبولاً نفسياً من الطلبة هو الأنجح
في إيصال المادة العلمية من المعلّم الجامد الذي لا يتفاعل الطلبة معه ولا يملكون
شعوراً خاصاً بشأنه. هذه قد تكون من أهم المعوّقات التي تجعل الطلبة لا يتفاعلون
بشكل كبير مع آلة عديمة المشاعر تُلقي عليهم المواد التعليمية حتى ولو كانت فائقة
الذكاء، بالإضافة لذلك فالاعتماد على أنظمة ذكاء اصطناعي متكاملة في التعليم
يتطلّب موارد بشرية ومالية كبيرة، وعلى الرغم من ذلك، فقد نجحت جامعات عالمية مثل
جامعة كاليفورنيا بيركلي وجامعة ميشيغان ومعهد جورجيا للتكنولوجيا في الاعتماد على
أنظمة ذكاء اصطناعي كبيرة في عملية التعليم.
أما في العراق، فإدخال الذكاء الاصطناعي إلى التعليم هو أبطأ مما تفعله
الدول المتقدمة، ولكنه يبشّر بخير، وهناك خطوات جديّة للاعتماد على الذكاء
الاصطناعي في تحسين جودة التعليم في العراق، وفي هذا الصدد فهناك الكثير من البحوث
والمقالات العراقية التي تدرس آليات وطرائق الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في
التعليم، ومنها البحث العلمي (دور الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة التعليم العالي
في العراق) للباحثة (أ.م. رنا عبد علي زيدان) والمنشور في مجلة كلية التربية
للبنات في الجامعة المستنصرية.
ومن الجدير بالذكر مؤتمر دافوس 2024 والذي شارك فيه رئيس الوزراء
العراقي، وفيه أعلن أن شعار المرحلة المقبلة هو "الذكاء الاصطناعي الطريق إلى
سوق العمل العالمي". وأكدّت مسؤولة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مكتب مستشار
رئيس الوزراء العراقي أن هناك خطوات جادة لإدخال الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم
والتعليم العالي العراقي.
ورغم كل هذه الأخبار المبشّرة، والتطلّعات المستقبلية، سواء على مستوى
العالم أو العراق، لا زالت هناك مخاوف كبيرة وتكهّنات أكبر تحوم حول الذكاء
الاصطناعي في مجال التعليم. ستؤثر
هذه التكنولوجيا على كيفية تعلّم الطلاب، وكيفية عمل المعلمين، وفي النهاية كيفية
هيكلة نظامنا التعليمي. يتطلع بعض المعلمين والقادة إلى هذه التغييرات بحماس كبير.
وذهب سال خان، مؤسس Khan Academy، إلى حد القول في أحد محادثات TED إن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على إحداث "ربما أكبر تحول
إيجابي شهده التعليم على الإطلاق". لكن آخرين يحذرون من أن الذكاء الاصطناعي
سيعمل على تمكين انتشار المعلومات المضللة، وتسهيل الغش في المدارس والكليات، وقتل
ما تبقى من الخصوصية الفردية، والتسبب في خسارة هائلة للوظائف. هناك من يخشى بأن
وظيفة "المعلّم" ستنتهي مع حلول عام 2050، وسيتم استبدالها بروبوتات دردشة
ذكية ومتطورة للغاية تُعامل كل طالب حسب إمكانياته العلمية وتطلّعاته وشخصيته
المتفرّدة. وهناك من يقول بأن وظيفة المعلّم لا يمكن لها أن تنتهي، فرغم أن
تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد تتطوّر بشكل فائق الذكاء ويمكن لها أن تكون خالية من
الخطأ ومن المحاباة، إلا أننا في النهاية سنحتاج إلى من يُعلّم الأجيال كيفية صنع
وبرمجة وصيانة مثل هذه التطبيقات!
يقول الكاتب الأمريكي يوفال نوح هراري في كتابه (الإنسان الإله: تاريخ
موجز للمستقبل) بأن الآلة مهما تطوّرت وفاق ذكاءها ذكاء الإنسان، فستبقى تحتاج
للإنسان لكي يقوم بتشغيلها وصيانتها وبرمجتها وتعليمها كيف تتصرّف. يّمكن للآلة أن
تحل أي معادلة رياضية أو فيزيائية، أو تقوم بتدريس شخص كيف يخلط عنصر الهيدروجين
مع الأوكسجين لإنتاج الماء، ولكنها لن تتمكن من تدريسنا التاريخ، أو السياسة، أو
علم الاجتماع، أو التفاعل مع آرائنا المتناقضة حيال كل أمر جدلي.
قد لا تسمح لنا الآلة بالإبداع، فلكي نتعلّم، نحن لا نحتاج إلى تلقين
المعلومة وحفظ المخططات والخوارزميات اللازمة فقط، نحن نحتاج لأن نخطئ أحياناً لكي
نتعلّم، نحن نحتاج لمشاعر وأحاسيس لا تمتلكها الآلة مهما بلغ ذكاؤها!
فهل ستحل الآلة محل المعلّم؟ برأيي الشخصي، لا أعتقد ذلك -على الأقل في
المستقبل القريب- ولكنها يمكن أن تساعد المعلّم على تقديم المعلومة بشكل أفضل،
وتساعد الطلبة على تطوير مهاراتهم بشكل أكثر تفاعلية وإنتاجية وإبداعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق